في بيتنا محصور!

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الأحد, يونيو 7, 2015 - 17:10

مع تفاقم أزمات الإنسان في عصرنا، ومخاوفه مما يأتي به المستقبل، صار القلق، أو الحصر، ظاهرة شائعة لا يكاد يخلو منها بيت، سواء بشكل عابر، أو بعناء مستمر. الحصر، أو القلق، إذا كان عارضا مؤقتا فإنه يقع في إطار «استجابة التكيف» التي تمكن الإنسان من النهوض بأعباء تتطلب مجهودا إضافيا، ذهنيا كان أو بدنيا. أمّا إذا كان القلق مصحوبا بتغيير في نمط الحياة، وفي السلوك المعيشي اليومى، سواء أطال زمن ذلك التغير أم قصر، فإن القلق يكون حالة مرضية تستلزم العلاج. من يصاب بالقلق؟!
الثابت أن الوراثة تلعب دورا ضئيلا في الإصابة بالقلق. إلا أن بذور القلق تنبت في سنوات العمر الأولى، أو ما يسمى الطفولة الباكرة. ولا يختلف القلق في هذا عن معظم العلل والأمراض النفسية.

 

وقد يتصور بعضنا أن فقدان أحد الوالدين، بالموت أو بالانفصال، أو غير ذلك من التجارب المماثلة ذات الطبيعة المفاجئة المؤلمة، يكون سببا في غرس بذور «الحَصَر النفسي» (بفتح الحاء والصاد في كلمة الحصر) «anxiety neurosis». والحقيقة أن الأطفال يتمتعون بقدرة فائقة على استيعاب تجارب الحياة الحادة والتكيف معها! لكنهم في المقابل يتأثرون بدرجة بالغة بمواقف الحياة ذات الطبيعة المزمنة، أي تلك التي يتكرر حدوثها في فترة زمنية طويلة، حتى وإن كانت تلك المواقف تافهة في ظاهرها!

مثال ذلك، الاهتمام بطفل في الأسرة دون أخيه أو أخته، أو إيثار طفل بالمحبة والعطف دون آخر، أو توجيه اللوم والتوبيخ دائما إلى طفل في الأسرة دون إخوانه وأخواته. هذا التمييز في المعاملة، يولّد في الطفل المهمل أو الملوم أو المفضل عليه، شـعورا بعدم الأمان! وقد ينمو الشعور بعدم الأمان فيصبح شعورا بالنبذ أو الرفض، بمعنى أن الطفل يشعر بأنه غير مرغوب فيه. وتظهر ترجمة الشعور بعدم الأمان في سلوك الطفل، فيبدو خجولا مترددا فاقد الثقة في نفسه! كما ينفعل مثل هذا الطفل بسرعة، وتفيض دموعه بسهولة، فيوصف بأنه شديد الحساسية!
والشعور بعدم الأمان في الطفولة الباكرة، تترتب عليه آثار عكسية في نمو الشخصية. وغالبا ما يكبر الطفل فاقد الأمان ليصبح صورة كبيرة لذات الطفل الخجول المتردد فاقد الثقة في نفسه! بتعبير آخر، فإن الآثار ذاتها التي ولّدها الشعور بعدم الأمان في مرحلة الطفولة، تبقى إلى ما بعد البلوغ!
معظم الذين يصابون بالقلق بين البالغين هم من الذين فقدوا الشعور بالأمان في طفولتهم. فهل الإصابة بالحَصَر النفسي وقف على هذه الفئة؟! الإجابة لا. إذْ يمكن أن يصاب إنسان بالغ بالقلق، على الرغم من أنه اجتاز طفولة سـوية ناعمـة، تبعا لتجربته الشخصية لمواقف الحياة ونظرته إلى الأمور.

فمثلا، إذا أخفق طالب في اجتياز امتحان دراسي، فهناك احتمال كبير أن يصاب بالقلق قبل المحاولة الثانية لاجتياز الامتحان نفسه. فإذا تكرر الإخفاق في المرة الثانية، زاد احتمال الإصابة بالقلق قبل المحاولة الثالثة! ومثال آخر، إذا نشبت مشادة بين سيدة مطلقة وزوجها الثاني، فمن المحتمل أن تصاب السيدة بالحَصَر النفسي مخافة أن تفقد زوجها الثاني. وقس على هذين المثالين. وخلاصة الإجابة عن السؤال: من يصاب بالقلق؟! إن الذين تعرضوا في طفولتهم لمشاعر عدم الأمان يكونون أكثر عرضة للإصابة بالقلق في مرحلة ما من حياتهم. ومن جهة أخرى، فإن الإخفاق في تجربة أو موقف معين يكون مثيرا للقلق عند تعرض الإنسان للتجربة ذاتها أو الموقف كرَّة أخرى. أي أن الخوف الشديد من الفشل يمكن أن يكون سببا في الإصابة بالحَصَر النفسي!
الإصابة بالقلق يمكن أن تكون حادة مفاجئة، وحينئذ يكون المريض في حالة من الذعر والهلع تشبه «الهستيريا». وقد تكون الإصابة مزمنة، بمعنى حدوث القلق تدريجيا وعلى فترة زمنية طويلة نسبيا. وفي حالة القلق المزمن تكون بعض أعراض القلق وعلاماته موجودة عند المريض زمنا، قد يطول إلى شهور وأحيانا إلى سنوات!

تتركز علامات وأعراض القلق، في صورتيه الحادة والمزمنة، حول أربعة محاور. وليس من المحتم أن يشكو المريض من جميع الأعراض والعلامات التي سيلي ذكرها. كما أن بعض المرضى تتركز شكواهم حول واحد من محاور الأعراض والعلامات.

المحور الأول: يعرف باسـم «محور الحركة»، ويتعلق بالجهاز الحركي في الجسم، أي بالعضلات. وأهم الأعراض والعلامات ضمن هذا المحور، حدوث آلام متفرقة في عضلات الجسم، مع الشعور بالتعب بسرعة من المجهود العضلي، وعدم القدرة على الاسترخاء. إذْ تكون العضلات مشدودة متوترة، ويحدث فيها انقباض تلقائي من حين إلى آخر! وقد تحدث رعشة خفيفة، تشمل أحيانا مجموعات من العضلات في الجسم، وتتركز أحيانا في اليدين أو حول العينين. والمصاب بالقلق لا يستقر على حال في أي وضع، سـواء في الوقوف أو عند القعود، فحركة أعضائه كثيرة التغيير كثير حركة اليدين، متململا كثير الـتـنهـد. أما التعبير على الوجه فلا تخطئه عين، إذْ يكون الجبين مقطبا وعضلات الوجه مشدودة. وأحيانا تحدث رعشة خفيفة حول الشفتين أو في جفن العين.
هذه الأعراض تتشابه كثيرا مع أعراض الاكتئاب! وعلى الرغم من أن القلق قد يجتمع مع الاكتئاب عند مريض واحد، إلا أن الطبيب الفطن يسهل عليه التمييز ومعرفة السبب الحقيقي للأعراض.

المحور الثاني: يسمى «محور الجهاز العصبي الذاتي» ويتميز بنشاط زائد في عمل الجهاز العصبي المذكور. ويترتب على ذلك مجموعة من الأعراض والعلامات مثل العرق، وبرودة اليدين ورطوبتهما، وجفاف الفم، والشعور بالتنميل (الخَدَر) في اليدين أو القدمين. إلا أن أهم عرض في هذا المحور هو خفقان القلب بشدة وبسرعة. وغالبا ما يشكو مريض القلق من أن صوت قلبه يشبه قرع الطبول، أو أن قلبه ينبض بسرعة جواد في سباق للخيل!
شدة خفقان قلب المريض بالقلق تزيد من قلقه ومخاوفه. إذْ يعتقد أنه مصاب بمرض في القلب! ولا عجب والحال كذلك أن تتكرر زيارات المصاب بالقلق للأطباء المتخصصين في أمراض القلب.
ومن علامات زيادة نشاط الجهاز العصبي الذاتي (وهو الجزء من الجهاز العصبي الذي يحكم أنشطة الجسم الداخلية غير الإرادية، مثل التنفس والهضم وضربات القلب). التبول بكثرة، والإسهال، والشعور بتعب في المعدة بعـد الأكل، أو الشعور بآلام مبهمة (أي غير محددة الطبيعة والمكان) في البطن. وقد يكون هناك شعور بوجود شيء ما في الحلق ( الزور)!
ولا يخفي أن الأعراض والعلامات هنا تتشابه بدرجة كبيرة مع أعراض وعلامات أمراض عضوية (أي غير نفسية، وتتعلق باضطراب وظيفة عضو أو جهاز في الجسم) مثل مرض البول السكري (السكر) ومثل قرحة المعدة، والنزلة المعوية، والدوسنتاريا، وغير ذلك!

أما المحور الثالث من محاور أعراض وعلامات القلق فيسمى «محور المخاوف»: وهنا يصف المريض نفسه بأنه خائف بصورة عامة. أي أنه خائف من شيء لا يدريه، وأن هذا الخوف يصاحبه في جميع أحواله! ومن العلامات هنا إطالة التفكير والتأمل خصوصا في أحداث الماضى، والتضايق من أمور تافهة، وانشغال البال دائما حتى بأمور صغيرة. وأهم علامة هنا هي شعور المريض الغامض بأن شيئا ما غير سار سيحدث له أو لأحد أفراد أسرته. وكثيرا ما تسمع مريض القلق يقول إنه يشعر بأنه سيموت قريبا، أو أنه يفقد القدرة على التحكم في نفسه!

والمحور الرابع والأخير يسمى «محور اليقظة»:ويشمل من الأعراض والعلامات صعوبة في التركيز، على الرغم من أن جميع حواس المريض في حالة انتباه شديد! وحتى إذا أفلح المصاب بالقلق في التركيز في عمل ما، فإنه يمكن صرف انتباهه عن ذلك العمل بسهولة. على أن أهم الأعراض في هذا المحور هي المتعلقة باضطراب النوم. فالمصاب بالقلق دائما يشكو من الأرق! وعندما ينام فإنه يستيقظ عدة مرات أثناء الليل، إمّا لقضاء الحاجة (لا ننسى أنه كثير التبول) وإمَّا نتيجة مخاوفه وما تسببه له من أحلام مزعجة! وعندما ينهض في الصباح، يشعر مريض القلق بالتعب وكأنه لم ينم طوال الليل! وتشبه هذه الأعراض كذلك أعراض الاكتئاب. في بداية المرض، تكون مخاوف المريض من موقف أو تجربة معينة هي السبب في ظهور مختلف الأعراض المذكورة. وفور ظهور الأعراض تتركز مخاوف المريض حول حالته الصحية، فتراه يخرج من عيادة طبيب إلى عيادة طبيب آخر! والمؤسف أن كثيرا من الأطباء يداوي الأعراض العضوية دون سؤال عن كيفية نشأة تلك الأعراض، والظروف التي نشأت فيها! ونظرا إلى أن المريض لا يكون واعيا إلى حقيقة العلاقة بين مخاوفه وبين الأعراض العضوية التي يشـكو منها، فإنه لا يسرد للطبيب حالته النفسية وأوضاعه الاجتماعية ومخاوفه، قبل نشأة الأعراض! لهذا يدور الطبيب ومريض القلق في حلقة مفرغة! إذْ يستمر الطبيب يصف مختلف الأدوية، ويستمر المريض يشكو من الأعراض نفسها! وفي النهاية يصاب المريض بالإحباط من محاولات طبيبه غير الناجحة، فيذهب إلى طبيب آخر! ومن المحتمل أن تتكرر فصول القصة نفسها مع الطبيب الثاني!

ولكي يمكن تشخيص الحَصَر النفسي، ويمكن تفادى الدخول في حلقة مفرغة، يتعين أن يحصل الطبيب على وصف متكامل من المريض لحالته قبل نشأة الأعراض. وقد يستلزم ذلك معرفة الظروف الاجتماعية وجو الأسرة، وطبيعة العمل والمضايقات المتعلقة به، وكذا طموحات المريض. وفي الدرجة الأولى من الأهمية حدوث أي إخفاق - أو الخوف من حدوث إخفاق في المستقبل - على صعيد الدراسة والعمل والعلاقات العاطفية والاجتماعية والأسرية.
وتكون الخطوة التالية هي التأكد من أن الأعراض التي يشكو منها المريض ناشئة عن القلق وليس عن مرض عضوي. ويمكن أن تكشف فحوص طبية بسيطة عن عدم وجود أصل عضوي للشكوى.
هنا يتعين على الطبيب أن يميز بين القلق والاكتئاب، وسائر الأمراض التي تعطي أعراضا وعلاماتٍ مشابهة. فإذا وصل إلى يقين بأن المريض مصاب بالقلق، فينبغي قبل أن يخبر مريضه بالنتيجة التي وصل إليها، أن يشرح كيف يمكن أنْ تؤدى مخاوف نفسية إلى ظهور أعراض وعلامات عضوية. عندها يمكن أن يستقبل المريض الخبر بصدر رحب.

والعجيب حقا أن مريض القلق يرفض بإصرار أن يصدق أنه غير مصاب بمرض عضوي، حتى في وجود النتائج السلبية للفحوص الطبية! وأغرب من ذلك أنه يسخر من القول بأن مخاوفه هي السبب في ظهور الأعراض العضوية! وهذا ما يجعل من عملية شرح كيفية حدوث المرض خطوة رئيسية لإقناع المريض من ناحية، وحجرا أساسيا في علاجه من ناحية أخرى.

على أي حال، فحتى عند فهم المريض طبيعة المرض وكيفية حدوثه، فإن إعطاءه أدوية للعلاج مباشرة قد لا يفيد! مادامت المخاوف هناك، فإن دور الدواء لن يزيد على أنه طلاء على وجه ممسوخ! والأفضل من ذلك أن يبدأ العلاج في صورة جلسات يسترسل المريض أثناءها في الكلام عن نفسه ومشكلاته. وإذا لم يستطع الطبيب المعالج القيام بدور المستمع الجيد، فيجب تحويل المريض إلى طبيب نفساني يتقن هذا الدور.

والطريف أن مريض القلق يشعر براحة كبيرة عندما يحكى مشكلاته ومخاوفه، وحتى لمجرد الكلام عن نفسه. (ولنتذكر أن معظم مرضى القلق كانوا أطفالا لايحظون بالاهتمام والحب والعطف. ويبدو أن مجرد الاستماع للمريض يشعره بنوع من الأهمية، كما أن اهتمام الطبيب به يعوضه عن مشاعر الافتقار إلى الحب والاهتمام). وأطرف من ذلك، أن كثيرا من مرضى القلق يصلون إلى حل لمشكلاتهم، ويصلون إلى أن مخاوفهم ليس لها ما يبررها، في جلسات الاستماع التي يعقدها الطبيب لهم!

وفي النهاية يأتي دور الدواء. ويحتاج مريض القلق إلى تعاطي أدوية مهدئة، تختلف جرعتها، وكذا طول فترة تعاطيها، من مريض إلى آخر. والهدف من هذه الأدوية هو كبح جماح الأعراض التي يشكو منها المريض، ريثما يتغلب على مخاوفه ويشفي من مرضه. ونظرا إلى أن أعراض المرض تـدور حول محاور متعددة، فيتعين أن يصف الطبيب النوعَ من الدواء الأنسب لكل مجموعة من الأعراض.
أما اجتناب الإصابة بالقلق أصلا، فهو ممكن تبعا لتكوين الشخصية، وتبعا لفلسفة الحياة التي يعتنقها الإنسان. فأصحاب الشخصيات القوية قلما يصابون بالقلق. وكذا «القدريون» (المؤمنون بالقضاء والقدر) لا يعرف القلق إليهم سبيلا. ولعل أفضل سبيل لاجتناب القلق هو طرد المخاوف من المستقبل، سواء تحقق ذلك من طريق اعتناق فلسفة معينة في الحياة، أو من طريق الإيمان بالله وبقدره على عباده. وصدق من قال: «أروَح الأمور للإنسان التسليم للمقادير»!

عبد الرحمن عبد اللطيف النمر
مجلة العربي

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.