الزواج بين الفطرة والشذوذ

الزواج هو وسيلة استمرار الحياة ودوامها في الذرّية ، وقد جعلت الشهوة الجنسية أقوى الغرائز الحياتية لتكون عاملا على الإزدواج وامتداد الحياة في الأخلاف. وتعتمد فكرة الإستخلاف على العقيدة ، فعند الجماعات البدائية يحتقر العازب و يمنع من المشاركة في الإحتفالات الدينية ، وإذا مات فإنه يلقى عذابا شديدا في الآخرة ، ولا يدخل (بيت الأموات) ويقطع إربا إربا (1) . وعند الشعوب ذات الحضارات القديمة ، كانت الديانة تتصل بتكوين الأسرة وتقوم على الإيمان بخلود أرواح الأسلاف المؤلهة بعد الموت وعبادة هذه الأرواح بتلاوة الأدعية وترتيل الأناشيد وتقديم الأضاحي والقرابين لها لكي تبقى منعمة في ساحات النعيم وتردّ الأرواح هذا الجميل فتحمي الأسرة وتطرد الأرواح الشريرة وتبارك الحقل ، فيخصب ، وينمو الزرع ، وتكثر الماشية. و لما كان دوام الحياة في الأسرة منوطا بالذكور فقد أولتهم الديانة حق عبادة الأسلاف ، يمارسها الولد البكر الذي يخلف أباه في العبادة والسلطة . من أجل ذلك فرضت الديانة الزواج . وكان فرضا على كل رجل بلغ سن الزواج أن يتزوّج من امرأة بلغت هذه السن ، ليعقب منها ولدا ذكرا يستمر في عبادة أسلاف الأسرة ، ثم يقوم هو بعبادته وتقديسه إذا مات . فإذا كانت الزوجة عاقرا أو كانت لا تلد سوى البنات ،كان على الزوج أن يتزوج من امرأة أخرى أو يشتري ولدا يتبناه . وإن كان الزوج عقيما ، كان على الزوجة أن تحمل من أخيه أو من أقرب أقربائه فإذا ولدت ولدا ذكرا ، نسب إلى الزوج ولم ينسب إلى الأخ أو القريب الذي حملت منه . وإذا مات الأب عن بنت ولم يولد له ولد ذكر ، كان على البنت أن تحمل من أقرب أقربائها ، وينسب الولد إلى أبيها . كل ذلك من أجل أن تستمر العبادة في الأسرة ، لأن الأسرة كالديانة ، لا تستمر إلا عن طريق الذكور.(2) وبهذا قضت ديانة الصين والهند واليونان والرومان. كذلك تتصل فكرة الزواج في الديانات السماوية بالعقيدة ، ففي شريعة اليهود يعتبر الزواج أداء لفريضة أمر الله بها لاستمرار عبادته ، فمن تأخر عن أداء هذه الفريضة وعاش عزبا ، كان سببا في غضب الله على بني إسرائيل(3) . وفي الشريعة الإسلامية يفرض الزواج على كل قادر عليه لكي تستمر عبادة الله في الأرض وفي ذلك يقول تعالى: (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)(4) . وقد حضّ الرسول (صلى الله عليه وسلم)على الزواج فقال يخاطب الشباب: ( يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج )(5). 

وإلى جانب ظاهرة الزواج وجدت ظاهرة التبتّل والعزوبة ، وهي كالزواج تتصل بالعقيدة أيضا ، وكانت تتمتع مثله بحرمة وتقديس . وتقوم هذه الظاهرة على الإعتقاد بأن المعاشرة الجنسية عمل دنس ، وأن الطهارة تكون في الإبتعادعن النساء ، لذلك كانت العزوبة مفروضة على رؤساء الديانة - وهم السحرة - في الجماعات البدائية ، الذين يتصلون بالقوى الخفية ويعلنون عن إرادتها للناس ، ولا تستجيب هذه القوى إلاّ للأطهار من الدّنس .
و لما ارتقى الفكر الديني بظهور المدينة ، تحوّلت القوى الخارقة الخفية إلى آلهة ، وتحول السحرة إلى كهنة ، وظلت العزوبة مفروضة على كبار الكهان . وعند بعض الجماعات كانت العزوبة مفروضة على النساء اللائي ينذرن أنفسهن للآلهة. ففي المكسيك والبيرو كان من العذارى من ينذرن أنفسهنّ لإله الشمس ، ويمضين حياتهن في أماكن يعتزلن فيها الناس ، حتى يتوفّاهنّ الله. ولا يحل لإنسان أن يكلّمهنّ أو يراهن ، ولو كان من الأقربين.
وفي جزر الكناري تقوم بعض العذارى بمساعدة الكهنة في أداء مراسم العبادة ، ولا يحلّ لهن أن يتزوجن ، ما دمن يقمن بهذه المهمة وفي سواحل أفريقية الغربية تفرض بعض الجماعات العزوبة على البنت البكر التي تلد لزعيم الجماعة ، وتحتل مكانة عظيمة عند قومها ، وتفقد مكانتها إذا هي تزوجت. وفي جماعات أخرى تفرض العزوبة على الكاهنات وعند الهنود البوذيين تفرض العزوبة على الكهان ، لأن البوذية ترى أن اللذة الجسدية لا تأتلف مع الحكمة والقداسة. وتروي الأساطير أن أم بوذا كانت من الأطهار وأنها حملت من قوة خارقة ، ولم تلد سواه. وفي التيبت الغربية يجب عى كل أسرة أن تخصّص أحد أبنائها الذكور للكهنوت ، وأن تفرض العزوبة عليه والتبتّل على بعض بناتها. وفي الصين كانت تفرض العزوبة على الكهنة البوذيين. وعند قدماء الفرس كانت العزوبة مفروضة على كاهنات إله الشمس. وعند الرومان كانت تفرض العزوبة على كاهنات معبد النار المقدسة (فيستا vest ) ولا يسمح لهن بمغادرة المعبد إلا إذا أمضين ثلاثين سنة ، وكانت تفرض عليهن قيود شديدة في حياتهن في داخله فإذ خالفنها ، كان جزاء اﻟﻤﺨالفة أن تدفن وهي حية. شبيه بذلك ما كانت عليه كاهنات معبد (دلفس Delphes باليونان).
وعند بعض الجماعات القديمة تعتبر الكاهنات زوجات للإله الذي يقمن بخدمته ، ويحرم عليهن الزواج من غيره. ففي البيرو والمكسيك يعتبر كوكب الشمس زوجا للعذارى المنقطعات لعبادته ، ولا يحل لهن أن يتزوجن ، حتى لا تختلط دماؤهن بدماء بشرية. ومثل هذا السلوك الديني نراه شائعا في بعض الجماعات الأفريقية. وفي معبد الإله (جوبيتير) كانت تنام فيه امرأة عزباء ، وقد اختارها هذا الإله من دون النساء لتكون زوجة له ، ويحرم عليها أن يمسها إنسان. ويروي (هيرودوت) أن امرأة كانت تنام في معبد (طيبة) وتنذر نفسها له ، وتدل النصوص المصرية القديمة على أن هذه ا لمرأة كانت الملكة ، وأن الولد الذي تلده كان يعتبر إلها حاصلا من زواج ا لملكة بالإله.
ويقول (بلوتارك) إن المصريين كانوا يعتقدون أن من الممكن أن تعاشر المرأة إلها ، وأن يعاشر الرجل إلهة. ولذلك كان الإعتقاد سائدا عند المسيحيين الأوائل أن من الممكن أن تقيم المرأة علاقة مع إله ، ويتحدث القديس (سيبيريانوس) عن نساء عازبات تزوجن المسيح زواجا روحيا ونذرن أنفسهنّ له وتخلين عن لذة الجسد.وهذا الإعتقاد كان أساسا للعادة اليونانية التي قضت بأن تمتنع كهنة الإله (ديمتريوس) عن الإتصال الجنسي،وأن يغتسلوا بعصير السوكران لقتل شهوتهم ، وآخرون كانوا يختصون(6).
وقد تأثرت بفكرة العزوبة طائفة من اليهود يدعون (الأسينيون) يرون أن الزواج دنس وأن قهر اللذة انتصار للفضيلة ، ولذلك كانوا يعرضون عن الزواج. ولم يؤثر مذهب هؤلاء في اليهودية ، لكن المسيحية تأثرت به إلى حد كبير. ففي رسالة الرسول (بولص) إلى أهل(كورانت) (7) يقول: حسن للرجل ألا يمسّ امرأة ، ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته ولكل واحدة رجلها (8). ويقول: لكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزوج أصلح من الحرق ، ويقول أيضا : أريد أن تكونوا بلا هم ، غير المتزوج يهتم في ما للرب ، كيف يرضي الرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم وكيف يرضي امرأته. أن بين الزوجة والعذراء فرقا ، غير المتزوجة تهتم في ما للرب ، لتكون مقدّسة جسدا وروحا ، وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم ، كيف ترضي رجلها (9). فقول هذا الرسول وغيره من الرسل والقديسين أشاع الحماس والرغبة في العزوبة ، لأنها كما يقول القديس (أمبرواز) هي الطريق الأقصر إلى مملكة المؤمنين أما الزواج فهو الطريق الأطول إلى تلك المملكة. وقد أدّت هذه الآراء شيئا فشيئا إلى فرض العزوبة على رجال الدين ا لمسيحي ثم اقتصر فرضها على أصحاب ا لمراتب العليا منهم .
فالعزوبة إذن كانت مبنية على الإعتقاد بدنس الجماع ، ومن هنا فرض الإغتسال منه قبل دخول المعابد ، فعند بعض الجماعات القديمة لا يمكن للرجل أن يحضر اجتماعا يعقده رجال الدين إذا كان جنبا ما لم يغتسل ، و بمثل ذلك قضت شرائع مصر واليونان والهند ، وبمثل ذلك أيضا قضت شريعة اليهود(10) . وسرت بعد ذلك قاعدة الإغتسال من الجنابة واتسعت ، فمنعت مس الأشياء المقدسة ، والدخول إلى المعبد ويروي (هيرودوت) أن الزوجين في بابل ما كان يحلّ لهما لمس آنية المنزل إذا كانا جنبا ما لم يغتسلا.(11)
أما الشريعة الإسلامية فقد نهت عن العزوبة وحضت على الزواج والإستكثار من النسل ، وفي ذلك يقول الرسول: (تناكحوا تناسلوا فإنيّ مباه بكم الأمم يوم القيامة). وكان الرسول القدوة في ذلك فكان إذا أتاه أحد من الناس سأله إذا كان متزوجا ، فإذا لم يكن متزوجا حضّه على الزواج.
فالزواج إذن من سنة الإسلام ، وتكاثر المسلمين من أهداف الزواج ، فكل من بلغ سن الزواج وكان قادرا عليه في ماله وبدنه وجب أن يتزوج ، فيحصن بالزواج نفسه من مزالق الهوى ، ويقيم أسرة تزيد في قوة اﻟﻤﺠتمع الإسلامي.
والنهي عن العزوبة يشمل الأحرار والأرقاء ، فالزواج في نظر الإسلام حق إنساني والإسلام لا يحرم أحدا من حقوقه الإنسانية،ولذلك نهي النبي (صلى الله عليه و سلم)عن خصاء الذكور من الرقيق وحرمه واعتبره تعذيبا لا يحل أن ينزل بإنسان ولا حيوان ، وفي ذلك يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من خصى عبده خصيناه ) (12). وبذلك أجمع الفقهاء على تحريم الخصاء لأنه يمنع حقا أساسيا من حقوق الحياة.
أما الجنابة فكانت تعتبر عند الجاهليين دنسا يوجب الإغتسال.وكذلك أعتبرها الإسلام وأوجب فيها الإغتسال لصحة العبادة ، ودعا الإغتسال منها تطهيرا ، ونهى غير المتطهرين عن لمس المقدسات وأقدسها القرآن الكريم فقال تعالى.( إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون ، لا يمسّه إلا المطهرّون)(13) . 

المراجع والهوامش 

1 عبد السلام الترمانين.(1984) - الزواج عند العرب فى الجاهلية والإسلام - عالم المعرفة الكويت . ص 47
2 - نفس المرجع . ص 48
3 كتاب المقابلات والمقارنات لمحمد صبري. مادة ٩٣ .
4 -سورة الذاريات: ٥٦ .
5 -الباءة: مثونة الزواج والقدرة عليه. حديث رواه البخاري.
6 عبد السلام الترمانينى - مرجع سابق ص ص 50 : 51
8 كورانت Corinth مدينة يونانية تقع عل القناة المسماة باسمها (برزخ كورانت)
9 - الإنجيل: رسالة بولس الرسول إلى أهل كورانت: الإصحاح السابع: ١- ٬٢ ٨- ٬١٠ ٣١ - ٣٢ .
10- الإنجيل: رسالة بولس الرسول إلى أهل كورانت. الإصحاح السابع: ١- ٨٬٢ - ٬١٠ ٣١ - ٣٢ .
11- قانون مانو الهندي ، الباب الخامس ، القاعدة ٦٢ - سفر اللاوين ، الإصحاح ١٥ : ١٦ - ١٨ .
12- رواه أبو داود. نيل الأوطار للشوكاني ٧/ ١٥
13 - سورة الواقعة ٧٧ - ٧٩

د. صلاح الدين السرسي