اضطراب الشخصية الحدية.... بين النظرية والممارسة

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: السبت, يونيو 6, 2015 - 19:05

ليس هناك حالة مرضية تثير النقاش في مجال الصحة النفسية مثل اضطراب الشخصية الحدية. في عام 2007 استجوبت طالبتان في السنة قبل الأخيرة من كلية الطب في جامعة كاردف (ويلز – المملكة المتحدة) أثناء الفترة التعليمية الاختيارية في الصيف شريحة كبيرة من العاملين في قسم الصحة النفسية حول آرائهم في اضطراب الشخصية الحدية. إن كان البعض لا يعترف بوجود هذا الاضطراب النفسي لم يكن مفاجأة لأحد، ولكن الصاعقة كانت أن 85% ينكرون وجوده تماماً.

مرت ثلاث سنوات وخلال تلك الفترة الزمنية صدر قانون الصحة النفسية في عام 2007 وأصبح ساري المفعول منذ 2008 وأهم تعديل حدث هو استبدال مصطلح المرض النفسي Mental Illness بالاضطراب النفسي Mental Disorder ومن جراء ليس هناك مفر من تقديم العناية الصحية والاجتماعية اللازمة لكل مصاب باضطراب نفسي يشكل خطراً على نفسه أو على الآخرين وليس بالضرورة أن تكون المعاناة مرضا نفسياً.

التعبير الأخير يكاد يكون حصراً على الاضطرابات الذهانية عكس تعبير الاضطراب النفسي أو العقلي فهو يشمل كل اضطراب تم تدوينه في التصنيفات التشخيصية العالمية، رغم ذلك فإن عدد الذين لا يقرون بهذا التشخيص هبط فقط من 85 % إلى 58 %. بعبارة أخرى إن أكثر من النصف من العاملين في مجال الصحة النفسية الذين يقدمون الدعم والعلاج للمصابين بهذا الاضطراب لا يعترفون بأن مرضاهم مصابون بمرض عقلي أو نفسي. من هذا المنطلق سأتناول الحديث عن هذا الاضطراب الذي يدعي الكثير أنه نتيجة لتغير طبيعة الحياة في جميع أنحاء العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

اضطراب مصطلحات اضطراب الشخصية
لا يقل اضطراب الشخصية اضطرابا عن المصطلحات التي تستعمل في هذا المجال. هناك ثلاث مصطلحات كثيرة التداول في هذا المجال وهي:
1- أسلوب الفرد Style .
2- الشخصية Personality .
3- اضطراب الشخصية Personality Disorder .

لكل فرد أسلوبه في التعامل مع الآخرين وتنظيم أدائه العملي والثقافي ولا يمكن الجزم بطبيعة شخصيته بمجرد الحكم على سلوكه العام. أما الشخصية فهي تحتوي على أبعاد متعددة منها المعرفية، السلوكية، والعاطفية ولا يجوز إصدار الحكم على شخصية الفرد إلا بدراسة جميع هذه الأبعاد بصورة علمية مفصلة. أما اضطراب الشخصية فتراه مصطلحاً يتم استعماله عند يصبح سلوك الفرد وتعامله مع الآخرين ذا نتائج سلبية، اجتماعيا وصحياً، عليه وعلى الآخرين، على عكس الأسلوب والشخصية التي تخضع لتغيرات تطورية قد تستمر إلى منتصف العقد الرابع من العمر وحتى بعد ذلك، فإن اضطراب الشخصية تظهر علاماته مع بداية دخول الإنسان مراحل البلوغ العضوي في النصف الأول من سنين المراهقة.

يتمثل ذلك بوضوح في السلوك ضد الاجتماعي عند الأفراد المصابين باضطراب الشخصية المضادة للمجتمع (أو المستهينة بالمجتمع) Antisocial Personality Disorder . رغم أن هذا التمييز بين هذه المصطلحات لا يزال الأكثر وضوحاً، ولكن هناك من يميل إلى أن اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع ما هو إلا مجرد اضطراب عصبي تطوري وأن الكثير منهم ربما مصابين باضطرابات متعددة منها اضطراب ضعف الانتباه وفرط الحركة Attention Deficit & Hyperactivity Disorder(ADHD). إن المسالة الأخيرة سيتم التطرق إليها بالتفصيل عند مراجعة الاضطراب الأخير في البالغين.

تكمن مشكلة اضطراب الشخصية الحدية في أنه يختلف كثيراً عن بعض اضطرابات الشخصية الأخرى ويتشابه مع البعض الآخر غير أن هناك صفة واحدة يتميز بها وهي عدم الاستقرار العاطفي والوجداني، ولذلك يفضل البعض استعمال مصطلح اضطراب الشخصية الغير مستقرة عاطفياً أو الانفعالية Emotionally Unstable Personality Disorder هذا المصطلح المتداول في التصنيف العالمي للأمراض العقلية رقم 10، ولكن شيوع استعمال المصطلحات التي يتم استعمالها من قبل الجمعية الأمريكية للطب النفسي طغت على هذا التعبير وشاع استعمال مصطلح اضطراب الشخصية الحدية. يتميز تعبير اضطراب الشخصية الانفعالية بأنه أكثر تقبلاً من الشخصية الحدية من قبل الكثير من المرضى ولا يحمل في طياته ذلك الارتباك الموجود بلفظ الحدية والذي يعني للكثير بأنه مقاربا للجنون أو للشخصية المضادة للمجتمع. بعبارة أخرى ليس هناك وجود لوصمة عار اجتماعية في مصطلح اضطراب الشخصية الانفعالية على عكس اضطراب الشخصية الحدية.

عدم التنسيق الوجداني أو العاطفي Affect Dysregulation or Emotional Dysregulation
لا شك أن من جراء هذا الاضطراب في المصطلحات هنالك بعض المستشارين في مجال الصحة النفسية يميل إلى استعمال مصطلح أكثر تقبلاً من المريض ومن الكثير من العاملين في مجال الصحة النفسية وهو عدم التنسيق العاطفي. يمكن تعريف هذا المصطلح كما يلي:
وجود نقص في قابلية الإنسان على تمييز، فهم، والقبول بوجود عواطف معينة داخله، وممارسة سلوك موجه في الوقت الذي يعاني فيه من عواطف سلبية مع غياب ترنيم شدة ومدة هذه العواطف وعدم القدرة على استعمال طرق صحيحة للتخلص من هذه العواطف السلبية إرادياً، ولكنه في عين الوقت في سعي مستمر للوصول إلى أهداف شخصية معينة.

هذا المصطلح ربما أكثر فعالية في العلاج ويحمل المريض المسؤولية في السلوك الانفعالي الذي يعاني منه ويعاني الآخرون من حوله بسببه. أما استعمال اضطراب الشخصية الحدية فهو على عكس ذلك فهو يشير إلى أن المريض مصاب باضطراب عقلي لابد من علاجه باستعمال شتى الطرق واللجوء بإسراف إلى وصف شتى العقاقير مع غياب الأدلة العلمية التي تثبت فعاليتها على المدى البعيد والقصير.
بعد المراجعة أعلاه نعود إلى مراجعة الشخصية الحدية.

مراجعة اضطراب الشخصية الحدية:
تم إدخال هذا المصطلح في المجلد التشخيصي والإحصائي الثالث لجمعية الطب النفسي الأمريكية في عام 1980 DSM III ولكنه لم يظهر في تصنيف الأمراض العالمي لمنظمة الصحة العالمية حتى عام 1992 وفي المجلد العاشرICD 10.
اعتمادا على الكثير من الأبحاث الميدانية فإن هذا الاضطراب هو أكثر اضطرابات الشخصية شيوعاً (Loranger et al 1997). لا يتوقف الأمر هنا ولكن اعتماداً على سوارتز Swartz et al 1990 فإن اضطراب الشخصية هذا يتواجد في 2 -3 % من السكان. رغم أن الرقم الأخير قد يصعب القبول به وخاصة عند الحديث عن الشخصية الحدية واضطراب الشخصية الحدية ولكن هناك إجماعاً على أن المصابين بهذا الاضطراب يحتلون 25% من أسرة ردهات الأمراض النفسية وما لا يقل عن 15% من مراجعات العيادة الخارجية لقسم الأمراض النفسية.

إن اعتماد تشخيص اضطراب الشخصية الحدية كمرض عقلي له أبعاده العملية على تقديم الخدمات الصحية في مجال الطب النفسي. هناك إجماع بين العاملين في هذا المجال الصحي أن الخدمات الصحية في الطب النفسي يجب أن تكون موجهة نحو توفير العلاج في كافة المجالات للمرضى المصابين بالأمراض العقلية الخطيرة وبالذات الشيزوفرانيا والاضطراب الثناقطبي الأول (دون الثاني). يتم تقييم مستوى الخدمات الصحية في الطب النفسي على مدى عنايتها ووصولها إلى المرضى المصابين بالأمراض الذهانية، وعلى ضوء ذلك يمكن استيعاب أسباب العداء الخفي للمصابين باضطرابات الشخصية وخاصة اضطراب الشخصية الحدية حيث يعتقد الكثيرون بأنهم يستهلكون المصادر المادية والبشرية للطب النفسي بشكل غير متناسب.

تاريخ مصطلح الحدية
الترجمة الحرفية لمصطلح Borderline هو خط الحدود وأول من أدخل هذا التعبير (خط الحدود أو الحد) هو سيغموند فرويد في دراسته للحالة المعروف بالرجل الذئب Wolf Man . تتعلق هذه الحالة برجل من أصل ارستقراطي من روسيا تم تحليله نفسياً من قبل فرويد، وكان يعاني من اكتئاب شديد. كان فرويد مولعاً بتفسير الأحلام، وكان حلم هذا الرجل يتعلق بذئاب بيضاء اللون. لكي لا أطيل الحديث عن هذه الحالة وملابساتها والتي تم نشرها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، يمكن اختصارها بأنها تتعلق بمراهق متمرد كثير التعبير عن مشاعره.

لم يتم استعمال هذا المصطلح مرة ثانية حتى عام 1938 حين تطرق إليه أدولف شترن Adolph Stern واصفاً به المرضى الذين يتجاهلون ويستخفون بالحدود المهنية في العلاج النفسي. هذا الاستخفاف ومحاولة البعض تجاوز الحدود المهنية كان ولا يزال أحد المشاكل في جميع أنواع العلاج النفسي ولا يقتصر فقط على التحليل النفسي، وطالما هو أحد أسباب فشل هذا العلاج. يجب أن يحرص المعالج النفسي على مراقبة الحدود المهنية وعدم السماح للمريض وعدم السماح كذلك لنفسه تجاوزها، وعلى أن يقتصر الاتصال بينهما في أوقات علاج تم تحديد أوقاتها مسبقاً. لا يقتصر الأمر على الأوقات فقط ويجب مراقبة ما يُقال أثناء أوقات العلاج وملاحظة طبيعة السلوك، ومنع الاتصال الهاتفي.

شاع استعمال هذا المصطلح بعض الشيء في الأربعينيات وبدأ الكثير يستعمله وأصبح تشخيصاً يتم إلصاقه بالمريض بعد إلقاء حالته في سلة المهملات Wastebasket diagnosis على حد تعبير نايت Knight 1954.
في عام 1967 تطرق كيرنبرغ Kernberg إلى تنظيم الشخصية الحدية Borderline Personality Organisation بالتفصيل وشاع استعمال هذا المصطلح في أوساط الطب والعلاج النفسي. بعدها أشار كرنكير Grinker وزملاؤه في عام 1968 إلى أن الشخصية الحدية ما هي إلا نتاج التغيرات الاجتماعية التي حدثت عالمياً في النصف الغربي من العالم في القرن العشرين. هذه المقالة لا تخلو من الصحة وربما هذه التغيرات الاجتماعية تفسر شيوع مثل هذا التشخيص في الغرب والشرق هذه الأيام.

ظهر بعد ذلك مصطلح متلازمة الشخصية الحدية Borderline Personality Syndrome في منتصف السبعينيات، وأصبح استعماله شائعاً ومرتبكاً في وقت واحد وأصبح الكثير يتصور بأنه الحد الفاصل بين الأمراض الذهانية والعصابية. هذا الاعتقاد لا يزال سائداً إلى اليوم لكثرة استعمال الحد أو خط الحدود في الصحة النفسية مثل خط حدود الذكاء Borderline Intelligence وكذلك خط حدود الذهان Borderline Psychosis المصطلحات الأخيرة مصطلحات مرتبكة ويفضل عدم استعمالها جزافاً في الممارسة المهنية.

من جراء ذلك ترى أن تشخيص حال اضطراب الشخصية الحدية ليس سهلاً وطالما ما يحدث الارتباك من جراء تفسير سلوك المريض بسببه رغم وجود أعراض مرضية أخرى. يوضح الرسم التوضيحي أعلاه كيف يمكن حدوث هذا الارتباك من جراء ما تم التطرق إليه أعلاه.

هناك العديد من الأفراد التي يمكن وصف تنظيم شخصيتهم بكونها حدية من جراء استعمالهم لطرق دفاع نفسية مشابهة لتلك التي يتم استعمالها في اضطراب الشخصية الحدية.

يتطلب تشخيص الشخصية الحدية وجود أعراض مرضية معينة لا تقل عن الأربعة ولكن بوجود أقل من هذه الأعراض أو كانت تلك الأعراض دون العتبة التي عندها توصف تلك بأنها مرضية يستحسن استعمال مصطلح المتلازمة.

جميع الأمراض الذهانية والعصابية يمكن ظهورها في إطار الشخصية الحدية ويحدث من جراء ذلك ارتباك في التشخيص والعلاج.

معايير اضطراب الشخصية الحدية
1- علاقات شخصية متقلبة وانفعالية Unstable Intense Relationships : ترى المصابة أو المصاب بهذا الاضطراب شديد التعلق إلى درجة العبادة بإنسان من حوله يوماً، ولكنه أحياناً لسبب تافه أو بدون سابق إنذار تنقلب مشاعره نحوه ويصحب شديد الكراهية له.

2- الاندفاع والتهور في السلوك Impulsivity : ترى الاندفاع والتهور في الكثير من مجالات الحياة من جراء السعي وراء مشاعر بالمتعة. ترى بعضهم يميل إلى تجربة مادة كيمائية بعد أخرى أو التوقف عن العمل والانخراط في مهنة لا يملك المؤهلات الأزمة لها. يمكن ملاحظة هذا السلوك في التصرف المادي والتبذير وشرائهم ما لا يحتاجونه من السلع الكمالية. يضاف إلى ذلك ولعهم بالمقامرة والرهان في شتى المجالات.

3- عدم الاستقرار الوجداني Affective Instability : ترى الفرد المصاب بهذا الاضطراب يشكو يوماً من الاكتئاب وأحياناً تراه كثير البهجة والانطلاق. من جراء ذلك لابد من التمعن جيداً في شكوى المريض وعدم التسرع بتشخيص الاكتئاب أو الاضطراب الثناقطبي.

4- الغضب Anger: قد يشكو المريض من سرعة شعوره بالغضب وعدم قدرته على السيطرة عليه أو قد تكون هذه شكوى من يعيش معه أو يصاحبه.

5- سلوك انتحاري أو تشويه بالذات Suicidal or Self Mutilating Behaviour: يكاد يكون هذا المعيار الأكثر انتباهاً للعاملين في مجال الصحة النفسية. ترى قطع الجلد ومشاهدة نزيف الدم من مكان الجرح كثير الملاحظة ويدعي المريض دوماً بأن ذلك يجلب الارتياح لهم. أما المعالج فينظر إلى هذا السلوك إلى وسيلة من عدة وسائل يلجأ إليها المريض للسيطرة على من حوله ونيل العطف والانتباه.
كذلك تكثر ملاحظة استعمال الوشم بعد الآخر وفي مناطق متعددة من الجسد، ويلجأ البعض منهم إلى ثقب الأنف، اللسان. والبطن وغير ذلك. هناك أنواع أخرى من السلوك سيتم التطرق إليها في الأجزاء القادمة.

6- اضطراب الهوية Identity Disturbance : يعاني هؤلاء الأفراد من اضطراب الهوية أو بعبارة أدق غياب أو قبول هويتهم. ترى الفرد كثير التدين في مرحلة ما ويرفض كل معتقد ديني في مرحلة أخرى. يتفرع اضطراب الهوية أو غيابها إلى الهوية الجنسية فالبعض منهم مثلياً يوما ما وغيرياً أو ثنائياً في توجهه يوماً آخر.

7- الشعور بالفراغ Emptiness : تسمع تردد هذه الشكوى بين الحين والآخر وكثيراً ما يستعمل الفرد كلمة الشعور بالملل والضجر. هذه الشكوى يكثر سماعها من قبل شريك الحياة، وطالما تكون أحد أسباب نهاية العلاقة بين الشريكين.

8- الخوف من تخلي أو هجرة الآخرين Abandonment Fears : يكاد يكون هؤلاء الأفراد في قلق دائم من تخلي الأصدقاء أو الشركاء لهم، ولكنهم قلما يسعون بجدية لتقوية العلاقة بينهم وبين من حولهم.

9- هفوات في تفحص الحقيقة Lapses in Reality Testing: بين الحين والآخر ترى الفرد يشكي من هلوسة سمعية أو بصرية إلى ما قد يشابه نوبة ذهانية حادة. بسبب ذلك يتم تشخيص البعض بأمراض ذهانية رغم أن الفحص الدقيق يكشف بأن مثل هذه النوبات هي حالات انفصالية أو ذهانية كاذبة، أو بسبب تعاطيهم مواد كيمائية مثل الحشيش والكوكايين وغيرها. إن تعاطي العقاقير الممنوعة هو كذلك جزء من المعيار الخامس.

تضيف المصادر إلى كثرة ملاحظة الأعراض أدناه في ما لا يقل عن 50% من الحالات غير أن هذه لا يمكن اعتمادها لتشخيص الحالة وهي أعراض إدراكية معرفية:
1- تبدد الشخصية Depersonalisation .
2- تبدد الواقع Derealisation .
3- تجارب زورانية Paranoid Experiences .
4- أوهام بصرية Visual Illusions.
5- تفكير مشوش Muddled Thinking .
6- تفكير سحري Magical Thinking .
7- أفكار مرجعية Ideas of Reference .
8- طريقة كلام غريبة Odd Speech .
9- أفكار مضطربة Disturbed Thinking .
المصدر: مجانين دوت كوم

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.