نشأة القلق لدى الطفل

كاتب المقال: د.صلاح الدين السرسى
التاريخ: السبت, أبريل 25, 2015 - 15:07

تتعدد النظريات والاتجاهات التي تُفسر القلق بشكل عام أو مفصل دقيق، سواء في ذلك القلق المرضي منه أو القلق السّويّ. فالقلق قد يَبدأ يسيرًا، ثم يمتد ويَنتشر حتى يُغطي كل مساحة التفكير، ويشل الإنسان في تعامله، لا سيما إذا كان حادًّا قويًّا مباغتًا. والقلق عند الأطفال ما هو إلا تعبير عن شعورهم بفقدان الشخص الذي يُحبونه ولهذا يخاف الأطفال من كل شخص غريب، وهم يخافون من الظلام؛ لأنهم لا يستطيعون أن يروا في الظلام الشخص الذي يحبونه، ويقل خوفهم إذا استطاعوا مسك يد هذا الشخص في الظلام، فيتبدد الخوف لحظة الإمساك بيد الشخص، أو الالتصاق به أو أن يكون قريبًا جدًّا حتى يشعر بالأمان معه، وقد تخف حدة قلق الطفل لو تحدث الشخص المعروف له من بعيد حتى دون أن يراه، هذا الخوف ينشأ لدى الأطفال بسبب الصور المثيرة التي يُعبِّئ بها الأهل أذهان هؤلاء الأطفال.

إلا أنَّ للقلق أهمية كبرى بوصفه عاملًا من العوامل المحددة لسلوك الإنسان، وذلك بسبب أنه قد يؤدي إلى ألوان من السلوك التي تتعارض مع إشباع الدوافع الأخرى. مثال ذلك أن الطفل قد يَرغب في القفز من فوق العارض الخشبي، والغطس في الماء ليكون شأنه في ذلك شأن سائر الأطفال ولكنه يشعر بالخوف. كما أن الطفل قد يَشعر بالرغبة في أن يبين لوالديه غضبه من أنهما يطالبانه بأشياءَ "غير معقولة"، ولكنه يخشى منهم اللوم والتقريع.

كذلك قد تُصبح الحياة أكثر يُسرًا وسهولةً لو أن الطفل استطاع أن يُصارح نفسه بما يشعر به أحيانًا تُجاه أمه وأبيه أو أخيه، ولكن مجرد التفكير في أمثال هذه الأمور يحدث عنده قدرًا زائدًا عن الحد من القلق. ولذلك فإنه يتعلم تجنب هذه الأفعال والأفكار؛ لأن في تجنبها نوعًا ما من الإثابة، حيث تخفض حدة القلق الذي تُثيره هذه الأفكار أو التصرفات.

فكيف يبدأ القلق؟ وما الذي يُحدث هذا الشعور الحاد بعدمِ الارتياح، وضربات القلب العنيفة، والنبض السريع، والشعور بأن المعدة قد غاصتْ إلى أسفل البطن والارتعاش والتفزز المبالَغ فيه وجفاف الحلق والفم.. وغير ذلك من دلائل القلق؟

الواقع أن العناصر الفسيولوجية من القلق ليست متعلمة، وذلك كما توضح الأمثلة السابقة، وإنما هي جزء من الأساس التكويني للطفل. أما الذي يتعلمه الطفل؛ فإنه الارتباط بين شخص ما أو شيء ما أو موقف ما من جهة وبين المشاعر والصور والاستجابات الفسيولوجية التي يَتألف منها القلق من جهة أخرى. أعني أن استثارة القلق هو الأمر الذي يتم تعلمه. من ذلك أن طفل الثانية من العمر قد يَتعلم الخوف من الكلاب الكبار؛ لأن أمه ترتاع وتفزع حين ترى واحدًا منها، ثم إذا تم تعلُّم الارتباط بين منظر الكلب والقلق، جعل الطفل يتجنب الكلاب. وهكذا يمكن تعلم الدافع إلى تجنب الكلاب الكبار.

ويُقال عن الخوف إن من الممكن تعلمه بسبب أننا نستطيع أن نتعلمه كاستجابة لعلامات كانت في الأصل محايدة. كما يقال عنه إنه دافع بسبب أنه يَدفع المرء في بعض الأحيان إلى تعلم الاستجابات الجديدة والقيام بها شأن الخوف في ذلك شأن الجوع والعطش، وبعض الدوافع الأخرى.

أضف إلى ذلك أن القلقَ استجابة متعلمة لهذا؛ فإنه يخضع لمبادئ التعلم عينها، من قبيل الانطفاء والتعميم، التي تنطبق على سائر السلوك. مثال ذلك أن الطفل إذا تعلم في بادئ أمره أن يخشى كلبًا معينًا؛ فإنه قد يقوم بعد ذلك بتعميم هذه الاستجابة حتى تشمل كل الأشياء التي يُطلق عليها لفظ "كلب" أو "حيوان"، بل إنها قد تشمل القطط والخيول والأبقار والأغنام والدجاج.

 

 الألم بوصفه عاملًا محددًا للقلق:

 

لو أردنا أن يتم التعلم -وقد أشرنا إلى ذلك من قبل- أي لو أردنا أن تتكونَ رابطة جديدة بين أمارة ما وبين استجابة من الاستجابات؛ لكان علينا أن نبحث عن وسيلة ما نَستثير بها الاستجابة أولا. وقد رأى بعض المشتغلين بعلم النفس أن هناك صنفًا من المثيرات يُؤدي بفطرته إلى الخوف أو القلق، وأن هذا الصنف هو الألم، ولعله من السهل علينا في أمثال هذه الحالات أن نرى كيف يبدأ القلق حتى في مرحلة الرضاعة؛ ذلك أن الرُّضَّع يخبرون عن الألم ما في ذلك شك، ومهما بلغ من حِرص الأمهات على رعايةِ الرَّضيع والاعتناء به. من ذلك أن الرضيع قد يخزه دبوس، أو قد يُقاسي من المغص، أو قد يَستبد به الجوع الشديد.

وتؤكد الملاحظات المستمدة من الأبحاث التجريبية أن الأم الجوع تصل إلى درجات عالية عند الرضيع قد لا تصل إليها عند الكبار، وكلما مضى الرضيع في تعلُّم الرابطة بين مشاعر الجوع الخفيف المبكرة، وما يتلوها من مشاعرِ الجوع الشديد القاسية؛ فإنه سُرعان ما يتعلم استباق المشاعر الأليمة خلال المراحل المبكرة من الجوع. ونحن نفترض أن عمليةَ استباق الألم هذه تؤدي إلى القلق؛ أي إننا حين نُتيح للرضيع أن يُخبر عن شدةِ الجوع من قبل أن نقوم بتغذيته، نقوم في الواقع بإرساء الدَّعائم التي تقوم عليها مشاعر القلق المرتبطة بخبرات الجوع.

كذلك نجد أن الأم التي تخزُّ رضيعها بالدبوس عن إِهمال حِين تقوم بتنظيفه، تهيئ في الواقع الظروف التي تُتيح له أن يَستبق الألم، وبالتالي القلق حين يُواجه من بعد ذلك موقف الأم وهي تتهيَّأ لتنظيفه.

 

 العوامل الأخرى المحددة للقلق:

 

من المحتمل أن تكون هناك مثيراتٍ أخرى، بخلاف الألم من شأنها أن تُؤدي إلى القلق بصفة فطريةٍ، ولو ان ما لدينا من العلم عن طبيعة هذه المثيرات شيء قليل جدًّا. وقد جنَح بعض المشتغلين بعلم النفس إلى أن الزيادة المفاجئة أو التغير المفاجئ يُؤدي إلى القلق.

من ذلك أن Hebb يُؤمن بأنَّ القلق -أو الخوف- يُستثار حين يَتألف النمطُ المثير (stimulus pattern) من عناصرِ بعضها مألوف وبعضها الآخر غير مألوف. فقد تَبين له مثلًا أن قردة الشمبانزي تَظهر عليها استجابات الخوف، إذا هي ووجهت بتمثال من الجبس يمثل رأس الشمبانزي. أما الرأس؛ فإنَّها عنصر مثير مألوف، على حين أن انعدام الجسم المرتبط بالرأس يَجعل من هذا المثير أمرًا مفارقًا، بحيث نجدُ الحيوانَ يَسلك وكأنه خائفٌ. ونقول إنه لو كان الفرض الذي يذهب إليه "هب" صحيحًا؛ لترتب عليه أن يؤدي المثير الجديد تمامًا إلى قدر من الخوف أقل مما يؤدي إليه المثير الذي يحتوي على عناصرَ مألوفةٍ بين سياق غير مألوف. أعني أن الأطفال حين يتقدم بهم النضجُ يتعلمون قواعدَ معينةً عن هذا العالم الذي نعيش فيه؛ أي إنه تتكون لديهم صور معينة، أو توقعات محددة عن بيئتهم؛ فهم يَتوقعون أن يكون لكل حيوان أربعة أقدام، وأن تكون للطيور أجنحة، وأن يكون لكل رجل ذراعان وعينان، وأن الثلج يكون أبيضَ.. وهكذا. ثم إنه إذا تعرضت توقعات الطفل عما سيرى، أو يسمع، أو يشم، أو يحس به لشيء من الاضطراب، أو عدم التأييد -أي إذا لم تتحقق توقعاته-؛ صار من المحتمل أن يداخله الشعور بالقلق.

مثال ذلك: أن الأم إذا اقتربت من طفلها الذي يبلغ الثمانية شهور من العمر، وهي تحمل بيدها إلى طفلها أفعى بدلًا من الزجاجة، كان من المحتمل أن ينخرط الطفل في البكاء. واستجابة القلق هذه لا تعود عندئذ -على الأرجح- إلى أن الطفل يتوقع الأذى أو يَستبقه من جانب الأفعى، وإنما تعود إلى وُجود مثير غير متوقع في موضع مثير مألوف؛ أي إلى المفاجأة النفسية. ولا بد أن نشير هنا إلى أن مثل هذا النوع من القلق لا يَحتمل وقوعه، إلا بعد أن يكون الكائن الحي قد ابتنى لنفسه بعض التوقعات عن البيئة. أضف إلى ذلك النوع من القلق لا سبيل إلى حدوثه خلال الأيام الأولى من الحياة.

وأخيرًا يرى بعض علماء النفس أن هناك طائفة معينة من المثيرات ليست متصلةً لا بالألم ولا بالمفاجأة، ومع ذلك فإن في مقدورها أن تثير القلق؛ أعني أن هناك نوعًا من الارتباط الفطري غير المتعلم بين استجابة القلق وبين بعض المثيرات.

هناك أربعة أنواع على الأقل من المواقف المثيرة يبدو كأن في ميسورها إثارة الخوف واستجابات التجنب على أساس فطري. الألم، والتغير المفاجئ في الاستثارة، والمثيرات غير المتوقعة، وبعض المثيرات الخاصة. فأما الطائفة الاخيرة من المثيرات؛ فإنه لم يستدل بعدُ على وجودها عند الإنسان، وأما الطائفة الثالثة -وهي المثيرات غير المتوقعة-؛ فإنها تحتاج إلى قدر من تعلُّم المدركات الحسية من قبل أن يتيسر لها استثارة الخوف. ومع ذلك يبدو من الواضح -بغض النظر عن المثيرات الأصلية التي قد تُؤدي إلى القلق- أن المصادر الرئيسية للقلق عند الكبار -بل وأكثرها قدرةً على إصابة الفرد بالعجز عن التوافق مع بيئته- مصادر متعلمة مكتسبة. وفيما يلي من هذا الفصل نناقش بعض هذه الأنواع المتعلمة، أو المكتسبة من القلق.

 مثال للقلق المكتسب:

 

فلنفترض أن رضيعًا أحس أخوه الأكبر بالغيرة منه -وهو إحساس مفهوم-، وأنه حقد على أخيه بسبب ما يحظى به من انتباه، وهو دخيل على دائرة الأسرة ولا يزال في غاية الضآلة. وأن هذا الأخ الأكبر جعل يتقدم نحو المهد الذي يلعب فيه الرضيع، ثم أخمد في جسمه دبوسًا. نقول عندئذ إنه لو كانت عملية الإدراك البصري عند الرضيع على درجة كافية من النضج؛ لترتب على ذلك أن تكونَ المثيرات البصرية -أو الأمارات البصرية- الصادرة عن أخيه مختلفة متميزة عن تلك المثيرات البصرية الصادرة عن أمه أو أبيه أو سائر أقربائه. ولو أن هذا كان صحيحًا؛ لبات من المحتمل أن يؤدي ظهور وجه أخيه الأكبر فيما بعد إلى جوار المهد إلى استباق الألم، وبالتالي إلى الشعور بالقلق.

ومن الممكن تحليل نموذج التعلم (learning paradigm) في هذه الحالة كما يلي. تمت المزاوجة بين مثير (هو الألم) يُؤدي بفطرته إلى استجابة الخوف وبين مثير محايد (وهو وجه الأخ الأكبر). نتيجة لهذه المزاوجة أصبح في مقدور وجه الأخ الأكبر وحده أن يحدث القلق في المستقبل.

والدليل التجريبي على هذا النوع من التعلُّم يَستمد من عدد من التجارب الكلاسيكية التي أجريت على العملية الشرطية. من قبيل تلك التجربة التي أجراها واطسون ورينر في هذه التجربة، أخذ المجريان يُحدِثان صوتًا عاليًا -بضرب بعض قضبان الصلب بعضها في بعض-، وكلما حاول الرضيعُ مدَّ يده إلى فأر أبيض لم يكن يَخشاه في بادئ الأمر. وبعد أن تكررت هذه الخبرة عدة مرات، أصبح الرضيع تبدو عليه أمارات الخوف كلما تعرض لرؤية الفأر فقط.

على أن مِن بين علماء النفس مَن يرى أن تعلُّم استجابة الخوف لا يَنطوي بالضرورة على إثابة متميزة. لكنه مع ذلك من الواضح أن القلق -بوصفه استجابةً، يخضع لما يخضع له سائر أنواع الاستجابات والسلوك من انطفاء وتمييز وتعميم، بل وبالطريقة نفسها.

 

 

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.