هل تعرف الأستاذ كامل؟

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الاثنين, يونيو 8, 2015 - 08:49

كان صالح طفلاً مثالياً مؤدباً منذ نشأته ، وكان إدراكه لمسائل الحلال والحرام والعيب والخطأ أكبر من سنه مما جعله مضرب المثل في الخلاق والالتزام في الحي.
أما في المدرسة فلم يكن الأمر يختلف كثيراً ، إذ لم يكن صالح يحضر يوماً دون أن يحل الواجب ، وكانت كل كتبه نظيفة ، ودفاتره منظمة ومسطّرة. لكن صالح كان يسعى دائماً لإرضاء مدرّسيه ليحصل منهم على المزيد من الثناء ، فأصبح يذاكر كل يوم ما درسه في اليوم السابق ، ويستعد بتحضير الدرس اللاحق ، مما جعله يحصد المزيد من التميز. إلا أن ذلك لم يكن يرضي والديه الذين لم يكن يكفيهما أن يحصل على أقل من 100% وفي كل مواد دراسته ، مما حرمه الاستمتاع بتميزه أحياناً .
لم يكن صالح يشعر بسعادة حقيقية من هذا الثناء والتقدير ، لأنه كان يلوم نفسه لأي تقصير ويشعر بالفشل والإحباط عند أي إخفاق.
سارت الأيام وبلغ صالح سن المراهقة ، ولا زال محتفظاً بنفس القدر من الجدية والاهتمام بدراسته. لكنه لم يكن محبوباً من زملائه الذين كانوا يحسدونه على تفوقه الدراسي في نفس الوقت الذي يسخرون منه لعدم قدرته على الانسجام معهم في تجمعاتهم التي تتسم بالشغب والمرح والتعليقات اللاذعة التي لم يكن يفهمها.
وفي نهاية العام الدراسي الثاني عشر ، حصل صالح على شهادة الثانوية العامة بنسبة عالية تؤهله لدخول أي كلية يشاء. وهنا ظهرت أولى مشكلات صالح ؛ إذ لم يستطع أن يقرر بأي كلية سيلتحق. لقد مر الأسبوع والأسبوعان وهو غير قادر على اتخاذ القرار ، فشرع يسأل ويسأل ويتحرى ، لكنه لم يكن يدري أين يتجه فكل تخصص له ميزات وعيوب ، وهو يريد تخصصاً لا عيب فيه.
وتحت ضغط من والده استطاع أن يقدم أوراقه إلى كلية الحاسب الآلي ، ولم يكن في الأمر مفاجأة فقد قُبِلَ على الفور ، فهلل والده لذلك وفرح ، لكن صالح لم يكن متأكداً أن هذا هو القرار الصحيح ، ومع ذلك فهو لا يملك رغبةً محددةً ، بل كان متردداً فحسب ، مما جعل والده يحسم له الأمر.
لم تكن الدراسة الجامعية بنفس السهولة كالدراسة في التعليم العام ، مما شكل ضغطاً نفسياً كبيراً على صالح ، لكنه أنهى دراسته بنجاح ، وبعد تردد مرة أخرى استطاع أن يحدد وظيفة بعينها في إحدى الشركات المرموقة.
لقد أصبح صالح الآن مهندساً ، وأبدى في عمله الجديد تفانياً منقطع النظير. كان يعمل لساعات طويلة ، لكن إنتاجيته كانت عادية جداً بسبب حرصه الشديد ، ودقته ، وخوفه من الخطأ ، ومن لوم مديره له. لقد وضع المهندس صالح لنفسه معايير عالية في الأداء لا يمكن تحقيقها بسهولة ، مما جعل زملاءه في العمل يتندرون عليه ويسمونه "الأستاذ كامل". كان هداه الله يغرق في التفاصيل والقوانين واللوائح والترتيب والتنظيم والجداول... إلى درجة يفقد معها الهدف الرئيس من العمل الذي يقوم به ، فيتوقف الانجاز.
كانت المشكلة في شخصية المهندس صالح أو "الأستاذ كامل" تظهر بوضوح عندما يكون عضواً في فريق عمل ، لأنه يصر بشكل متعنت على إتباع الآخرين لطريقته في العمل ، وقد يعارض أحياناً ويحتج ، وربما أرغمهم على العمل بأسلوبه الوحيد الذي لا يتجدد ، ولا يراعي الظروف والأحوال. وقد تصل الأمور بـ "الأستاذ كامل" أحياناً إلى تحمل العمل على كاهله وحده ، ليضمن جودته وإتقانه. وقد كانت هذه فرصة ذهبية لا يمكن أن تفوت على المماطلين والكسالى من زملائه ، لأنهم كانوا يعملون على إرباكه ودفعه ليقوم بالعمل لوحده ، ثم يسترخون ويلقون اللوم عليه عند يتأخر الإنجاز.
لذلك فقد اضطر "الأستاذ كامل" للتخلي عن صداقاته وأوقات راحته وأسرته ، لصالح عمله الذي يقضي فيه الساعات الطوال لينجز أعمالاً قد ينجزها غيره في ربع الوقت. وهذا ما جعله يفقد الثقة بنفسه ، ويميل إلى التشاؤم تجاه المستقبل ، غير مدرك أن سلوكه هو المسئول عن أغلب الصعوبات التي يواجهها.
ومع أن "الأستاذ كامل" رجل دؤوب ، ذو ضمير حي ، يحب الاحتفاظ بكل الأشياء أو الأوراق القديمة التي قد يحتاج إليها يوماً ما ، إلا أنه مع ذلك لم يكن يصلح للقيادة. وهذا ما اكتشفته إدارته عندما رشح لرئاسة قسمه. لم يكن يجيد اتخاذ القرارات بسرعة وثقة ، ولا ينام الليل عندما يطلب منه اتخاذ قرار ما بسبب خوفه من أن يكون هذا القرار غير صحيح أو أنه قد يلام عليه بشكل أو بآخر. لذلك فقد كان يتردد ويتردد ، حتى في أتفه الأمور ، ثم يعود باحثاً في الأنظمة والقوانين ، ليكتب لائحة طويلة من الحيثيات وأسلوب العمل المحكم غير القابل للتطبيق ، والمليء بالتشكك والتشدد خاصة فيما يخص المسائل الأخلاقية والمثل والقيم ، رغم أنه هدانا الله وإياه ، لم يكن متديناً بشكل عام.
أما في المنزل فلم تكن حياة "الأستاذ كامل" أفضل حالاً من حياته في العمل. طبيعته الجادة ، وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره ، وفقدانه لروح الدعابة ، وعدم معرفته بفنون العلاقة الزوجية وأسلوب الهدايا جعلت حياته الأسرية خاوية ، خالية من أي مشاعر طيبة ، إلا من بعض الأوامر والنواهي. والشيء العجيب ، أنه كان منظماً في بعض أمور بيته وسيارته لدرجة التعقيد ، لكنه فوضوي في نواحٍ أخرى لدرجة مربكة لمن حوله ، بسبب كثرة ما يحتفظ به من الأشياء البالية والقديمة التي يرفض التخلص منها أو تجديدها.
ومع أن زوجته كانت منبهرة بشخصيته المنظمة في بداية حياتهما الزوجية ، إلا أن هذا الإنبهار ما لبث أن اختفى جراء هذا النظام الصارم ، الذي كانت محاولاتها لتغييره تواجه بالرفض والغضب الذي ينقلب إلى خلاف وقطيعة أحياناً. ومع مرور الأيام ، فقدت الحياة مع "الأستاذ كامل" بريقها ، ورونقها ، وأصبح المنزل أشبه بدائرة حكومية ، خالٍ من المشاعر الإنسانية ، ليس فيه أي تجديد. أما أبناء الأستاذ كامل الخمسة فقد فتحوا عيونهم على هذا الأسلوب من العيش فلم يستنكروه ، واستطاع الأستاذ كامل أن يربيهم على نفس طريقته من الجدية والمثالية والنزعة للكمال.
من المتوقع أن يصبح لدينا بعد عدة سنوات -إن شاء الله- خمسة من الأساتذة الكاملين وليس أستاذاً كاملاً واحداً.
أرأيت عزيز القارئ كم هي الدنيا مملة لو كثر فيها أمثال "الأستاذ كامل". إن جمال الحياة بالتنوع والأشكال والألوان والتجديد التي يحاربها ولا يتحملها "الأساتذة الكاملون".
إن المهندس صالح أو "الأستاذ كامل" يعاني من اضطراب الشخصية الوسواسية ، ولقد تركناه يعمل على صنع خمسة مشاريع شخصيات وسواسية في آن واحد.

 

 

أ.د. عبدالله السبيعي 

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.